“إنني أرى يوما يجئ فيمكن للبصاص الأعظم أن يرصد حياة كل إنسان منذ لحظة ميلاده حتى مماته ليس الظاهر فحسب، إنما مايبطنه من خواطر، مايراه من أحلام، بهذا نرصد كل شئ منذ مولده نعرف أهواءه ومشاربه بحيث نتنبأ بما سيفعله في العام العشرين من عمره مثلا، فنستطيع منعه أو دعمه قبلها، وإذا ما سئل انسان عن الحقيقة الأولية فأنكرها يمكن للبصاص استعادة الموقف كاملا من الزمن فيواجه به من أنكر، أرى يوما يجئ فيمكن للبصاص معرفة الهمسات، الآهات، تأوهات الجماع بين الرجل وامرأته. إذا ماجرى حديث بين رجلين فوق قارب يجري في النيل أدركه هنا، ويمكنني التدخل في الحديث عند الوقت المناسب وتوجيهه، أرى يوما تنزع فيه الأعضاء من جسم الانسان لتُسأل عما فعلته فلا يمكنها الانكار، أرى …” مقتبسا ماجاء على لسان الشهاب الأعظم زكريا بن راضي كبير بصاصي السلطنة المصرية.
رواية “الزيني بركات” للأديب جمال الغيطاني المصورة لواقع دولة تقضي آخر أيامها حيث ربما يبدو القمع والقهر حلا آخيرا للنجاة ، الرواية التي كتبت في بداية السبعنات بعد نكسة 67 تحكى صورة من الحياة في وقت كانت دولة المماليك تمر بآخر أيامها ويبزغ نجم الدولة العثمانية وتنتهي الرواية بدخول العثمانيين إلى مصر.
الرواية تتعامل مع واقع ملئ بالقهر حيث لايبدو للانسان قيمة كبيرة وتبزغ فيه فلسفة أن ” العدل يمكن حمايته بالقمع والقهر والرقابة” وفي حقيقة الأمر فإن القمع والقهر والرقابة لايحموا إلا الظلم وغياب الضمير.
الشخصيات في الرواية أراها ممثلة لرمزيات معينة، فالشهاب الأعظم زكريا بن راضي كبير بصاصي السلطنة هو رمز لتحقيق العدل بفلسفة القمع والرقابة، والزيني بركات متولي حسبة الديار المصرية رأيته رمزا للسلطة المخادعة الذي يعرف كيف يصل إلى قلوب الناس لكنه يمارس قمعا بعيدا عن الأعين، بينما سعيد الجهيني هو رمز المواطن الذي يراقب الوضع الذي يحدث أمامه، يغضب حين يرى ظلما، يثور حين يرى قمعا، لكن غضبه وثورته ماهي إلا غضبا وثورة داخلية في قلبه، تحمله سلبيته إلى أن يكون متورطا في أن يكون جزءا من نظام القمع ذاك، مرة أخرى تحت ستار إعادة النظام للدولة المصرية المنهارة.
أصبت بالدهشة حينما تنتهي قيمة الانسان في عصر القهر إلى الدرجة التي تصل فيها عقوبة مخالفة أي أمر يصدر من السلطات العليا أن تكون الشنق بدون معاودة، هل يمكن أن تصل قيمة الانسان إلى الدرجة التي يصبح فيها وجوده – مجرد تواجده في الحياة – أمرا لايستحق المناقشة ؟!
رواية “الزيني بركات” مكتوبة بلغة مختلفة، اعتقد أن اقرب مايوصفها أنها لغة عربية مصرية خاصة لاتغرق في عامية المصرية وتحترم فصاحة اللغة العربية، أعجتني لغة الكتابة تلك لدرجة أني اعتقد أن لغة الرواية هي تجربة أخرى رائعة في حد ذاتها بعيدا عن أحداث الرواية .
يقول الكاتب جمال الغيطاني عن روايته الزيني بركات:
“جاءت (( الزيني بركات)) نتيجة لعوامل عديدة. أهمها في تقديري, تجربة معاناة القهر البوليسي في مصر خلال الستينيات. كانت هناك تجربة ضخمة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. تهدف إلى تحقيق أحلام البسطاء. يقودها زعيم كبير هو جمال عبد الناصر. ولكن كان مقتل هذه التجربة في رأيي, هو الأسلوب الذي تعاملت به مع الديمقراطية. وأحيانا كنا نحجم عن الحديث بهذا الشكل لأن هذه التجربة بعد انتهائها, تعرضت وما تزال تتعرض لهجوم حاد من خصوم العدالة الاجتماعية, ومن خصوم إتاحة الفرص أمام الفقراء. ولكن أنا أتصور أن الشهادة يجب أن تكون دقيقة الآن, خاصة وأن جيلنا, جيل الستينات الذي ننتمي إليه أنا والأستاذ البساطي قد بدأ يدنو من مراحله الأخيرة. لذا يجب أن نترك كلمة حق حتى لا تتكرر تلك الأخطاء … عانينا من الرقابة في الستينيات. وأسلوب التعامل البوليسي. وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ. كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر, وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية, التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه. وأنا عندما أقول الفترة لمملوكية, أعني الفترة المملوكية التي كانت مصر فيها سلطنة مستقلة تحمي البحرين والحرمين. وقد انتهت هذه السلطنة في عام 1517 بهزيمة عسكرية كبيرة في مرج دابق مال حلب. وعندما طالعت مراجع شهود العيان الذين عاشوا هذه الفترة, ذهلت من تشابه الظرف بين هزيمة 67 والأسباب التي أدت إليها وبينهزيمة القرن السادس عشر. وأوصلني هذا فيما بعد, إلى ما يمكن أن يسمى باكتشاف وحدة التجربة الإنسانية في مراحل كثيرة من التاريخ حتى وإن بعدت المسافة. على سبيل المثال : الألم الإنساني واحد. فالشعور بالحزن هو نفسه الذي كان يعبر عنه المصري القديم أو البابلي القديم. ومصر نتيجة لاستمرارية تاريخها وعدم انقطاعه تتشابه فيها الظروف من فترة إلى أخرى. سياحتي في التاريخ استقرت في العصر المملوكي.”
